الدكتور عبد الجبار الجومرد (1909-1971 ) مؤرخا
ولد عبد الجبار الجومرد في الموصل سنة 1909 ، وأكمل دراسته الأولى في مدارسها ، ثم التحق بدار المعلمين الابتدائية ببغداد وتخرج منها سنة 1929 . وواصل دراسته في المعهد العربي للحقوق في دمشق وتخرج سنة 1935 ، وعاد إلى الموصل ليمارس المحاماة . وفي سنة 1936 التحق بالبعثة العلمية العراقية في باريس وحصل على الدكتوراه عن رسالته الموسومة : " الدستور العراقي عام 1925 بين النظرية والتطبيق " وذلك سنة 1940 ، وقد حالت ظروف الحرب العالمية الثانية دون عودته لبلده ، ليحصل على دكتوراه في الأدب سنة 19044 من جامعة باريس وكتب رسالته عن " الأصمعي " .
عايش الجومرد أحداث الموصل وتأثر بما كان يسود فيها من أجواء قومية بتأثير مطالبة تركيا بها . لذلك أسهم في الحملة الوطنية لتأكيد عروبتها مع مدرسيه وزملائه ، ثم سعى لتأسيس نادٍ قومي في الموصل باسم " نادي الجزيرة " ، وقد انتخب الجومرد رئيساً له سنة 1935 واستطاع من خلال نشاطاته الثقافية والسياسية أن يجعل النادي واجهة للعمل السياسي القومي شأنه في ذلك شأن نادي المثنى ابن حارثة الشيباني في بغداد . وبعد إكماله الدكتوراه اتجه نحو الصحافة ، فكتب سلسلة من المقالات ناقش فيها مسائل حيوية تمس حياة الشعب . وقد تميزت هذه المقالات بالرصانة والدقة وبراعة الأسلوب ، وفي سنة 1946 رشح للعمل في جامعة الدول العربية ، فسافر إلى القاهرة ، لكنه استقال من عمله بعد سنتين وعاد إلى الموصل ليرشح نفسه نائباً في انتخابات أول آيار 1948 ، وكان للجومرد دور متميز في البرلمان ، وذلك من خلال تركيزه على مطالب الشعب الحيوية ، وانتقاده للسلطة الحاكمة لتجاهلها العمل على تحقيق سعادة الشعب ورفاهيته والاستجابة لمطالبه في الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وفي 1950 استقال من البرلمان ليسهم في تأسيس حزب الجبهة الشعبية المتحدة ، وليكون مسؤول فرع الموصل . كما رشح لانتخابات سنة 1952 و 1954 وأسهم في تكوين جبهة وطنية انتخابية شعبية واسعة .
واثر ثورة 14 تموز 1958 اختير وزيراً للخارجية في أول حكومة تشكلت في العراق الجمهوري . لكمنه استقال في شباط 1959 احتجاجاً على توجهات رئيس الوزراء آنذاك عبد الكريم قاسم . وعاد إلى الموصل ليكمل مؤلفاته ويعيد تنظيم مذكراته الشخصية وبقي كذلك حتى وفاته في 30 تشرين الثاني سنة 1971 .
عُرف الجومرد حينما كان في باريس بنشاطه القومي العربي ، وبدفاعه عن قضية فلسطين والتعريف بها من خلال محاضراته وكان كتابه " مأساة فلسطين العربية " الذي نشره بالفرنسية سنة 1945 ، قد نال شهرة واسعة بين الرأي العـام وخاصة في مجال الوقوف ضد الدعاية الصهيونية في فرنسا .
والجومرد يعد رائداً من رواد كتابة السير والتراجم في العراق . وقد اتجه في محاولة منه للتعريف بمواقف بعض الشخصيات التاريخية إلى وضع مجموعة من الكتب أبرزها كتابه عن " هارون الرشيد " و " يزيد بن مزيد الشيباني " و " أبو جعفر المنصور " . وكان منهج الجومرد في كتبه هذه يعتمد الأسس العلمية في الوصول إلى الحقيقة التاريخية مع ملاحظة إبراز الدروس المستنبطة في تناول هذه الشخصيات والأحداث والوقائع،وبما يساعد القارئ على استلهام التاريخ واستحضار رموزه وعناصر البطولة فيه ، وغرس قيم الخير وخدمة الانسانية . ولم ينسَ الجومرد أن يقوي حجته بالعودة إلى المصادر الأساسية والمراجع الحديثة "ويتبع منهجية البحث التاريخي،حيث حرص على تحري الموضوعية قدر الإمكان في خضم الروايات المتناقضة والصور المتنوعة . والجومرد لم يبحث عصر الرشيد أو عصر أبي جعفر المنصور فحسب ، بل مهّد لهما عن الفترة التي سبقت عصرهما " إلاّ أن الجومرد مثله مثل أي مؤرخ يتأثر بالأوضاع السائدة في عصره في العراق ، كان حدياً في بعض أحكامه ، وربما حمل نصوصه أكثر مما تحتمل ، أو بالغ بعض الشيء في التفسير " . ومع هذا فإن لموقفه ما يسوغه،ولا تزال كتبه في السير والتراجم أفضل ما ألفه العراقيون في هذا المجال .
وللجومرد كتاب مهم في تاريخ الموصل لا يزال مخطوطاً وهو بعنوان : " الموصل والتاريخ منذ أقدم العصور حتى اليوم " ،ويحترز على مخطوطته نجله صديقنا الاستاذ الدكتور جزيل الاستاذ في قسم التاريخ بكلية التربية ، ويتألف من (20) فصلاً . وقد قدّم له بما أسماه " تعريف " بقوله : " تاريخ مدينة الموصل قصة من أروع من كتب الزمن فصولاً طوالاً ، ومن أمتعها خبراً ، وأغناها حدثاً ، وأغزرها فجاءة وتناقضاً ، فهي من أعرق مدن الشرق الأوسط وامنعها قدماً ، عاشت أكثر من ثلاثة آلاف سنة ، ذاقت خلالها حلو العيش ومره ، وسعادة الحياة وبؤسها " .
ويتطرق الجومرد إلى الهدف من وضعه تاريخاً مفصلاً للموصل بقوله : إنّ عمله هذا ليـس إلاّ مجهوداً أراد منه " خدمـة لمن يهمـه معرفـة أمر الموصل ، وحقيقة تاريخها ، كمدينة أثرية ثمينة ، ساهمت في موكب الإنسانية على مختلف العصور،وقدّمت في أيام عزها نماذج رائعة من أبنائها في ميادين العلم والأدب والفن والفروسية ، وبعثت في مواهبهم أشعة نحو طرق الحضارة قديمها وحديثها،وصمدت أمام نكبات الزمن حتى اليوم ".
وكتاب تاريخ الموصل ، ليس كتاباً تسجيلياً لأحداث مرت بالموصل عبر العصور ، وإنما هو كتاب علمي يعتمد التحليل والنقد ولذلك ، فإن للجومرد آراء مبثوثة في صفحاته ، فعلى سبيل المثال هناك رأي في نشوء الموصل ، ومناقشة لأخطاء المؤرخين القدامى في بعض الفترات الغامضة في تاريخ الموصل ورأي في أسباب سوء أوضاع الموصل خلال العهد العثماني،ورأي في سلوك الولاة العثمانيين ، ورأي في سياسة الملك فيصل الرامية لإقامة
" دولة عربية ذات سيادة " في العراق ورأي في انقلاب بكر صدقي ورأي في أسباب صمود الموصل بوجه التحديات ، ورأي في مواجهة مجتمع الموصل المحافظ للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية منذ أواخر القرن التاسع عشر .
ويخلص الجومرد إلى تأكيد أمرين يستلفتان النظر في تاريخ الموصل ، أولهما صمودها وعدم تلاشيها امام كل التيارات الجارفة من الأحداث الجسام، وتمسكها بأهداب الحياة إزاء تلك النوائب والأمر الثاني ، وهو أكثر غرابة من سابقه ، كما يقول الجومرد ، ذلك أن الموصل حُكمت من قبل شعوب وأقوام ودول غريبة أصلاً ولغة وعادات وتقاليد زهاء ثمانمائة سنة ، لكنها بقيت محافظة على عروبتها ولغتها العربية حتى اليوم . ويرجع الجومرد صمود الموصل واحتفاظها بعروبتها إلى عدة أسباب منها موقعها الجغرافي واتصالها من الجنوب الغربي بخط عربي عريض يمر بالعراق طولاً وينتهي بشبه الجزيرة العربية .
والجومرد الذي عُرف عنه اهتمامه بالسير والتراجم وما قدمه في هذا المجال ، يؤكد مقدرته على التحليل ورسم صورة واضحة لمن يكتب عنه ، نراه في تاريخ الموصل مولعاً بمتابعة الأسر والشخصيات الموصلية عبر العصور . فعلى سبيل المثال كتب عن الأسرة العمرية والأسرة الجليلية والأسرة العلوية، وأسرة الغلامي ، وأسرة ياسين المفتي ، وأسرة آل شويخ . كما أرخ لصفوة واسعة من علماء الموصل وأدبائها أمثال : الشيخ محمد الرضواني،والحاج أحمد الجوادي،والحاج عبد الله النعمة،وعثمان الديوه جي، والملا عثمان الموصلي ، والشيخ محمد الصوفي ، والحاج محمود شيت الجومرد ، والشيخ يوسف الرمضاني ، والسيد أحمد الفخري ، والشيخ محمد ضياء الدين الشعار ، والحاج مصطفى البكري ، وسليمان بن مراد الجليلي ، ومحمد حبيب العبيدي ، وفائق الدبوني ، ومحمود الملاح ، والشيخ محمد نوري الفخري ، والدكتور داؤد الجلبي .
إنّ كتابات الجومرد التاريخية تتميز بسماتها القومية وبحرصها على التصدي لمحاولات الانتقاص من العرب ودورهم في التاريخ ، فالجومرد يهدف إلى كشف حقائق الأحداث ، بأسلوب علمي تحليلي ، لذلك فإنه يدافع في كل صفحة من كتبه عن العرب والعروبة ، ويسعى لتنمية الوعي في الحاضر ، ولرسم مستقبل الأمة الحضاري ، وفي الوقت نفسه يطالب الأجيال الصاعدة بالمزيد من دراسة تاريخ العراق والأمة العربية ، ومن خلال اهتمامه بالسِيَرْ والتراجم ، فإنه رمى إلى تقديم النموذج الحي ، والقدوة الصالحة ، وبذلك عبّر في دراساته عن مبادئه القومية العربية ، وانتماءاته الوطنية الصادقة التي جعلت منه رائداً حياً من رواد حركة كتابة التاريخ المعاصرة ليس في الموصل وحسيب ، وإنما في الوطن العربي .