يونس بحري شخصية موصلية غريبة الاطوار

يونس بحري أشهر شخصية عراقية غريبة الأطوار في العصر الحديث


ولد بمدينة الموصل في العام 1903، ونشأ وتثقف في مدارسها وتعّلم من حياتها الاجتماعية المتنوعة وكبر ورحل عنها رحلة حياته المثيرة، ولكنه سيرجع اليها في نهاية عمره ليقضي سنواته الأخيرة، و طاف العالم اربع مرات! ورحل بحري الي بغداد ليموت مفلسا فيها فدفنته البلدية في مقبرة الغزالي في آذار 1979.
كان اسمه الحقيقي: يونس صالح خلف الجبوري، ولد ونشأ في محلة الخضر بالموصل، وهي محلة كانت تقع خارج السور الجنوبي لمدينة الموصل ومحاذية لشواطئ دجلة.كان والده يوزباشي في الجيش العثماني.واخوه صادق أفندي قائم مقام لعدة أقضيه في العراق، وشمال العراق ومنها دلي عباس وشرانش والعاصي وكان يونس يزوره في هذه المناطق زيارات طويلة وتعلم خلالها العديد من اللغات المحلية واخوه الاخر طه مُعقباً في المحاكم .
وقد سُمي بالبحري لأنه وصل في إحدي جولاته كسائح في منتصف الثلاثينات (طاف العالم أربع مرات) الي الساحل الذي ينطلق منه سباحو العالم لعبور بحر المانش، فتقدم يونس باسمه وبعلم بلاده العراق لدخول المسابقة قبل ساعات معدودة من بدئها دون تحضير سابق أو تدريب. فعبر البحر محرزاً قصبة السبق وفائزاً بالمركز الأول مسجلاً سابقة لا مثيل لها فأطلق عليه تسمية يونس البحري ومنح جواز سفر دبلوماسي ألماني بهذا الاسم ولأول مرة.
ويونس بحري طويل القامة، أشقر وعيونه زرقاء، وصوته جهوري عالي النبرة تنجذب اليه الأسماع، وأمتهن الصحافة في وقت مبكر، ونشر كتابه الاول وهو بعد في ريعان الشباب بعنوان العراق اليوم عام 1924،
غادر الموصل مبكرا ودخل دار المعلمين سنة 1921 إلا أنه لم يكمل التحصيل فالتحق بوظيفة كتابية في وزارة المالية لكنه تركها عام 1923 وتوجه في هذه السنة إلي خارج العراق سائحاً فجاب في الكثير من الدول الآسيوية والأوربية واشتغل فيها بمختلف المهن، وطاف العالم وهو في العشرينات باسم سائح عراقي، ولكنه رجع الي بغداد في سنة 1925، وعاد إلي الوطن مستخدما ملكاته ومواهبه عن جولته حول العالم ، وهو يتحدث بأكثر من لغة ويتفلسف عن ثقافات الشعوب.. كانت له سفرة اخري الي الشرق الاقصي الذي عشقه واقام في جزره ردحا من الزمن، ففي عام 1930 وصل إلي أندونيسيا واشترك مع الأديب الكويتي عبد العزيز الرشيد بإصدار مجلة باسم الكويت والعراقي وقد صدر عددها الأول في جمادي الأولي 1350، وهي مجلة دينية أدبية أخلاقية تاريخية مصورة.كما أصدر مجلة أخري باسم الحق والإسلام. وفي سنة 1931 عاد إلي العراق فأصدر جريدة العقاب.

رفقة الملك غازي في معترك حياة بغداد
وبعد ان دخل معترك السياسة ببغداد، اصدر ايضا جريدة "الميثاق"، ونشر عدة مقالات استهوت الملك غازي كثيرا الذي سمع به، فكان ان اقترب منه وجعله صديقه.. ثم صار معلقا إذاعيا مطلع الثلاثينات في محطة اذاعة قصر الزهور، حيث وصل بسرعة الي قصر الملك غازي وغدا أحد أصدقائه المقربين، وقد اكتشف غازي انسجامه مع ميول وثقافة هذا الشاب العراقي المدهش، وانحيازهما معا الي حكومة الرايخ الثالث أي حكومة هتلر، فكان اول مذيع قدّم غازي بصوته المجلجل من اذاعته الخاصة في قصر الزهور.
ان قصة هذه الإذاعة الخاصة تعود للملك نفسه الذي كان يستهويه الاستماع الي الاذاعات التي كانت قد انتشرت ظاهرتها في الشرق الاوسط ، فكان ان اسس اذاعة له في قصره باعتباره كان مصوناً غير مسؤول في دولة اعتبرت اول في الشرق الاوسط تنال استقلالها الرسمي عن بريطانيا وتدخل عضوة ومؤسسة لعصبة الامم حسب معاهدة 1930 التي ابرمت علي عهد الملك الوالد فيصل الاول. وعليه، فلا يمكن لبريطانيا التدخل في شؤون غازي الخاصة كما لم يكن لها اي سلطة رسمية علي القصر الملكي باعتبار العراق قد استقل بشأنه وان علاقاته باتت تحددها معاهدة 1930.. ولكن غدت تلك "الاذاعة" مهّددة للمصالح البريطانية بصوت يونس بحري مندفعا بقوة الشاب غازي وفي ظل اجواء دولية يتفاقم فيها دور هتلر في اوروبا ممهدا للعاصفة التي تنذر باندلاع حرب عظمي لاحقا وتفاقم الحرب الاعلامية الباردة بين الحلفاء والمحور. وعن هذا السبيل استطاع يونس بحري بصوته أن يعبر عن أراء الملك عبر هذه الإذاعة، أو استطاع الملك غازي أن يعبر عن آرائه من خلال هذه الإذاعة وبصوت يونس بحري الذي بات العالم المحيط بالعراق يشتم منه ما يهدد بالمصالح البريطانية ليس في العراق وحده، بل في المنطقة كلها ..

صاحب فكرة اول انقلاب عربي في العراق
كان هو المذيع الاول في الاذاعة التي انشدت اليها الناس وهو يدعو الي الوحدة العربية.. ولكن يونس بحري لم يستقر ببغداد، اذ كان يهوي الانطلاق نحو كل العالم، وسرعان ما بدأ طوفانه من جديد حول العالم في رحلة له مضي فيها نحو الهند ثم جنوب شرق آسيا ووصل الي امريكا ثم رجع عن طريق بريطانيا واوروبا نحو العراق.ولا يعرف بالضبط حتي الان سبب طوفانه حول العالم مرة ثانية في الثلاثينيات.. وهل كان ذلك بمحض ارادته لاشباع ما في نفسه من هوي، ام كان يمّثل دورا معينا ابان تلك المرحلة لطرف معين ام عدة اطراف.. اتمني ان يكشف التاريخ لنا في المستقبل ما هو خفي ومسكوت عنه حول غرائب هذا الرجل النادر!وقد علمنا أيضا بأنه كان أول مذيع في إذاعة بغـداد عند تأسـيسـها عام 1936، وهو الذي قرأ البيـان رقم واحد لأول انقـلاب عسـكري حدث في تلك السـنة بقيادة الفريق بكر صدقي الذي يكيل له المديح طويلا في احد كتبه، ولكنه يقول بأنه اخطأ بعد توليه السلطة بأن حاد عن الاتجاه القومي العربي، وانه دفع حياته ثمنا لذلك عندما قتل في مطار الموصل.
يكتب يونس بحري عن بكر صدقي قائلا بأنه هو الذي زرع عند بكر صدقي فكرة الانقلاب قبل عام عندما كان الاثنان في المانيا وانه هو الذي عّرفه بالقادة الالمان وزّوجه من فتاة المانية!! يقول بالنص: " كنت أعتقد أن بكر صدقي عندما قام بثورته العسكرية الأولي في العراق كان قد وضع لها برنامجاً خاصاً للعمل داخل العراق وخارجه.. وخاصة بعد أن أوحيث له بفكرة الإنقلاب قبل عام عندما كنا في برلين يوم أن عرّفته علي بعض قادة الرأي والجيش الألمان.. وزوّجته من فتاة ألمانية من فيينا.. ولكنه لم يكن قد أعد للثورة أي منهج خاص، فارتجل حكماً فردياً وحصر السلطات كلها بيده.. ولعل الظاهرة الوحيدة التي تشفع له عند الوطنيين من أهل العراق والعرب، انه كان ضد الإستعمار علي مختلف ألوانه.. وضد النفوذ البريطاني وسيطرته في وادي الرافدين سيطرة مروعة.. فمنع تدخل دوائر " الانتليجنس سرفيس " التجسس البريطانية من التدخل في شؤون العراق، وكان يرأسها الكولونيل ديكوري مساعد الكولونيل هولت المستشار الشرقي للسفارة البريطانية في بغداد.. " .

يونس بحري ومصرع الملك غازي
عاد يونس بحري الي بغداد ثانية اثر رحلة غرائبية ثانية.. عاد وشهرة دولية يحملها الان مع ثبات علاقته بالملك غازي، ولكن مع تفاقم حدة الموقف الدولي في اوروبا عند نهاية الثلاثينيات.. وفجأة كان مصرع الملك غازي في العام 1939 بحادث سيارة كان يقودها بين قصر الزهور وقصر الحارثية رفقة خادمه واصطدام السيارة اثر انحرافها بعمود كهرباء سقط علي السيارة وهشم رأس الملك. وتبقي علامات استفهام كبيرة لاسئلة غامضة عن الحدث تتطلب البحث عن اجابات وافية .
يونس بحري كتب عن مقتل غازي في إحدي الصحف وقام بنفسه بتوزيع نسخ الصحيفة علي دراجة نارية متهما الامير عبد الإله ونوري السعيد بمقتله، فانتشرت الشائعات واخذها الناس حقيقة، فتسبب في مشكلات لا تعد ولا تحصي!
عند ذاك أدرك خطورة وجوده في العراق فأتفق مع القنصل الألماني ببغداد الدكتور غروبا علي الهرب الي المانيا، فوصلت طائرة ألمانية من قبل لوفتهانزا مطار بغداد باعتبارها تحمل وفداً صحافياً وعند هبوط الطائرة صعد إليها يونس باعتباره صحافياً لمقابلة الوفد فعادت الي التحليق متجهة إلي ألمانيا، ويقال انه هرب فيها بجواز سفر الماني منحته اياه القنصلية الالمانية، وهناك استقبل استقبالا فخما وأصبح أحد أقرب المقربين لغوبلز وزير دعاية هتلر ومنح رتبة " ماريشال " وكان يحمل علي كتفه الصليب المعقوف في الحفلات الرسمية التي يحضرها!

وأسس يونس بحري الإذاعة العربية في برلين بإعلانها ذائع الصيت هنا برلين حي العرب وخصص تعليقاته الجاذبة لمهاجمة الحلفاء واللعب علي اوتار العواطف العربية مهاجما الخطر الاستعماري المحدق بهم كأمة، فذاع اسمه في الافاق، وبدأ كل العرب ينتظرون سماع يونس بحري ويشغفون بصوته الرائع وتعليقاته المثيرة، ومنهم الرئيسين جمال عبد الناصر وانور السادات بالذات!وكان يبدأ بإذاعته بـ (حي العرب) وقد طبع ما أذاعه في هذه الإذاعة سنة 1956 في بيروت تحت عنوان هنا برلين وعمل إماماً وخطيباً لأكثر من جامع في أوربا.وفي باريـس اصدر جريدة العرب. ولم يكتف بشهرته العربية، بل كان يطمح دوما لأن يكون اسما عالميا.
لنقرأ ما كتب عنه:
It was not long until the real war began, which fanned the flame of the radio war Germany had also joined via the Arabic department in the Berlin radio station. An Iraqi announcer called Younis Bahri was in charge of this department's affairs; he had been invited by the German legation in Baghdad to travel to Berlin with the aim of spreading propaganda against the Iraqi government. There he turned towards waging the campaign against British policies in addition to the "disgrace against his nation". This resulted in Iraq's government trying him in absentia on the charge of grand treason. He was sentenced to death

عاد الى العراق قبل ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 مباشرة واعتقل بعد الثورة لمدة سبعة شهور ثم أطلق سراحة بدون محاكمة.
أفتتح مطعماً في منطقة الكرادة ببغداد وأخذ يرتاده كبار الشخصيات السياسية والفكرية والسفراء فكان أشبه بمنتدي وكان يونس يقوم بطبخ الأكلات المختلفة التي تعلمها أثناء سفراته.. وسمح له عبد الكريم قاسم بالسفر بعد أن أخذ عبد الكريم قاسم منه وعداً بعدم مهاجمة نظامه بعد مغادرته الأراضي العراقية. وقد تم تخصيص راتب له بعد سفره إلي لبنان قدره مائة دينار يستلمه من السفارة العراقية في بيروت ولكنه لم يتوقف عن نشاطه فأصدر كتابه الذي يشرح فيه وضعه في موقف أبي غريب (سبعة أشهر في سجون قاسم).
أصدر حوالي ستة عشر كتاباً منها (العراق اليوم)، (الحرب العراقية البريطانية) وسلسلة (هنا برلين حي العرب) حوالي عشرة أجزاء و(سبعة أشهر في سجون قاسم).. ومن الصحف التي أصدرها كان صاحب ورئيس تحرير صحيفة (العرب) الصادرة في باريس أواخر الخمسينات باللغة العربية كما أصدر صحيفة (أبو ظبي نيوز) باللغة الإنكليزية في (أبو ظبي) واصدر مجلة (العراق والكويت) في اندونيسيا في منتصف الثلاثينات.. وربما توجد نسخ لكل أو لبعض هذه المنشورات وكتبه موجودة في مكتبة الأستاذ محمد صديق الجليلي.
كان من أبرز صعاليك العرب في هذا القرن.. وكان يتنقل حاملاً في حقيبته الدبلوماسية أربعة أشياء جواز سفر، قنينة عرق، فرشاة أسنان وأدوات الحلاقة.

عائلته :-
تزوج يونس بحري من امرأة مثقفة موصلية أسمها مديحة ، وأنجب منها أبنين وبنت ، أبنه البكر هو الدكتور لؤي بحري وهو أستاذ يدرس حالياً في جامعة الجزائر للعلوم السياسية، والثاني الدكتور سعدي يونس الفنان الأكاديمي المتخصص في الفنون المسرحية (المسرح الشعبي) ويحمل ميولاً يسارية متطرفة ويرأس حالياً في جامعة السوربون في فرنسا ودعي أخر مرة الي مهرجان بابل حيث قدم مسرحية مثلها لوحده وهي (المجنون). والبنت هي الدكتورة مني بحري الأستاذة المتقاعدة حالياً من جامعة بغداد والمتخصصة بعلم النفس. لقد تربي الثلاثة في بيت جدتهم لامّهم بالموصل، وكانت الام مديحة قد لحقت بزوجها في اوروبا، وافتتحت لها في باريس صالون حلاقة ولا احد يعلم ماذا حّل بها في ما بعد ذلك.كانت علاقته بأولاده واهية لانه تركهم صغاراً ولم يهتم بهم، فربتهم جدتهم لأمهم مريم خانم والتي كانت تملك في الثلاثينيات في مدينة الموصل مدرسة لتعليم الخياطة.
وهو يتقن ستة عشر لغة عالمية أساسية قراءة وكتابة عدا اللغات واللهجات المحلية العراقية ، وقد وصل عدد زوجاته إلي أكثر من أربعين وكان يقول لقد بدأت بشهريار الإيرانية وانتهيت بشهرزاد السورية ولا نعلم ان كان قد تزوج شهريار قبل زوجته الموصلية مديحة أم بعدها.
ان شخصية نادرة مثل يونس بحري ما كان له الطبع ولا الرغبة في ان يقضي وقته مع عائلته، فهو صاحب نفسية مهاجرة وسايكلوجية غير مستقرة.. انه انسان لا يريد ان يهجع في مكان واحد، ولم يألف ان يبقي رب عائلة.. بل ولم يكن يصلح زوجا عاديا.. فهو انسان غير عادي !

فعلا شخصية موصلية غريبة الاطوار
مشكور استاذ احمد

مشكورررررررررر

شكرا يابمبدع